د.مي سمير
يُقدم الوحي القرآني الجليل رؤية متكاملة شديدة الحكمة في منهجية التعاطي مع تاريخ الأمم السابقة، فلا عجب أن شغلت مسألة قصص الأولين مساحة مُعتبرة بلغت ما يُعادل ثُلث القرآن الكريم، وهذا الإلحاح القرآني على الإخبار بذكر الأمم السابقة وقصص الأنبياء يؤشر على ما لتلك الأمم من أهمية لا من حيث تفاصيل الأحداث أو دقائق المعلومات، ولكن من حيث المقاصدية القرآنية والمنهجية الصحيحة للتعاطي مع ذلك التاريخ، وهي المنهجية التي يجب الاهتداء بها في مقاربة التاريخ والتعاطي مع الأسلاف لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من إرث الماضي.
وهذه المنهجية القرآنية تعبر عن طريقة مثالية في فهم الماضي فهماً موضوعياً بعيداً عن القطيعة معه أو الانغلاق عليه، وهو مأزق أمتنا الإسلامية منذ ما يزيد على القرنين من الزمان فيما يتعلق بتعاطينا مع تاريخنا، ما مثّل -ولا يزال- عقبة أمام المضي قُدُماً، فنحن نحمل على عاتقنا هذا التاريخ لا باعتباره وقوداً للتغيير والتقدم بل كعبء يثقل كاهلنا ويمنعنا عن مواكبة العصر.
وهذه المُعضلة التي قد تبدو عصية على الحل يقدم لنا الهدي القرآني دليلاً استرشادياً مفصلاً يسهم في تجاوزها، عبر دراسة وفهم تاريخ الأمم السابقة علينا بشكل متوازن ومنهجي يعطي للتاريخ مكانته المحورية التي يستحقها لكنه في الوقت نفسه لا ينقطع عن الحاضر والعيش فيه بما يلائم ظروف الزمان والمكان.
تاريخ الأمم السابقة في القرآن.. العبرة والسنن
يبين القرآن في معرض الانتهاء من قصة سيدنا يوسف عليه السلام المقصد القرآني من الإخبار بقصص الأمم السابقة: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111)، وقد اهتم التناول القرآني لتاريخ الأمم الغابرة بالتركيز على لحظات الصعود والهبوط، والتأكيد على مركزية الرسالة الربانية للأمم، وبذلك نجد نمطاً متكرراً ثابتاً أراد القرآن ترسيخه في الأذهان، ينقسم ذلك النمط إلى 3 مراحل تبدأ بصعود الأمة، ثم تبليغها بالرسالة، وانتهاءً بالهلاك عبر إنزال العذاب، وبذلك أفصحت المنهجية التأريخية عن عدد من السُّنن الإلهية الكونية الراسخة، وهي:
1- سُنة التغيير: وتعني سيرورة التاريخ بين الصعود والهبوط للتأكيد على أهمية العمل وبذل الجهد لتحقيق النجاح وتلافي أسباب الهلاك: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم: 9).
2- سُنة الاستخلاف في الأرض: وتعني استخلاف الأمم بتكليفها بحمل أمانة عبادة الله وعمارة الكون عبر إرسال الرُسُل والنُذر لتبليغهم وتكليفهم: (قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 129).
3- سُنة التدافع: وتؤكد حتمية الهلاك للأمم المُفسدة في الأرض من خلال الاشتباك بين أهل الحق وأهل الباطل: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251).
4- سُنة التمكين: وتُبشر بتمكين المؤمنين في الأرض بعد إهلاك أعدائهم لاختبار تنفيذهم للأوامر الإلهية بعد نصرهم: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (الأعراف: 137)، (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) (الأحزاب: 27)، وفي ذلك فالتمكين ليس تشريفاً أو جائزة وإنما اختبار لسلوك الأمم واستقامتها في عصور قوتها.
وقد استهدف القرآن الكريم من وراء التأكيد على ثبات تلك السُنن عبر العصور تبشير المؤمنين وتحذير الكافرين، والتدليل على الإعجاز الإلهي في إهلاك الأمم الفاسدة وحفظ نظام الكون، وتقديم التاريخ كساحة تفاعلية نابضة بالحياة لا كنصوص جامدة أو أسفار ثقيلة نحملها دون وعي.
المنهجية القرآنية في التأريخ
وقد اتبع الخطاب القرآني منهاجاً محكماً ومُتفرداً في مقاربة تاريخ الأمم السابقة، حيث عمد الوحي الإلهي إلى التركيز على العظة والمبادئ والأسس العامة لحركة التاريخ بديلاً عن الاهتمام بالمعلومات التفصيلية والأحداث الجزئية، ومن أهم أركان المنهجية القرآنية في التأريخ للأحداث والأمم السابقة:
1- إسقاط التفاصيل الدقيقة: بغرض التركيز على الحكمة العامة وعدم الاستغراق في الأمور الفرعية التي لا تخدم الفهم العام لسُنن الكون، من ذلك ورود كثير من القصص القرآني بدون أسماء: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) (يس: 13)، أو تواريخ وقوع الأحداث: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة: 246)، أو تحديد دقيق للأعداد كما في قصة أصحاب الكهف: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) (الكهف: 22).
2- التركيز على العبرة والسنن والقواعد العامة لسير التاريخ: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (النساء: 26)، فالغرض هداية المؤمنين وترسيخ إيمانهم بتبشيرهم بنصر الله والتأكيد على الهلاك الحتمي للمفسدين.
3- الحض على دراسة الأمم السابقة: هذا الانشغال بالتأريخ للأمم السابقة أبرز مدى أهمية دراسة وفهم حركة التاريخ من جانب المؤمنين؛ لأن تلك الدراسة هي الوسيلة المُثلى لتحقيق اليقين وفهم حركة الكون، ولتفويت التذرع بحجة الجهل: (أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ) (الأنعام 156).
4- النهي عن الاستغراق في الماضي: ورغم هذا التشديد القرآني على فهم قوانين الكون ودراسة الأمم السابقة، فإن مقاربة الوحي في دراسة التاريخ استهدفت تجاوز ذلك التاريخ وعدم الانغلاق على الماضي عبر التأكيد بأن كل أمة مسؤولة أمام الله عما اقترفته: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسَأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 134)؛ ما يعني محاسبة كل أمة عن أفعالها الخاصة مهما عظم نسبها أو تاريخ أسلافها.
5- النهي عن التقليد والتبعية العمياء: كان الحض القرآني على دراسة التاريخ وفهم حركته يبتغي الحيلولة دون التبعية العمياء للسابقين، وهو ما انتقده الخطاب القرآني لدى الكفار: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف: 22)، ومن ثم فإن الدراسة المتأنية لأحوال السابقين يمنع من الانزلاق نحو التقليد والركون إلى ميراث الأسلاف دون تدبر أو تعقل.
6- التأكيد على سريان سُنن الكون على الأمة الإسلامية وأنها ليست بدعاً من الأمم: كما أن دراسة تاريخ الأمم السابقة أراد منها الوحي القرآني إيضاح تكريم الله لأمتنا؛ (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)، فإن هذا التكريم لم يضمن عفواً إلهياً مفتوحاً إذا ما اتبعت الأمة نهج الأمم السابقة التي انحرفت عن طريق الصلاح والهداية: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (الحديد: 16)، فإذا ما أغفلنا دراسة الأمم السابقة وكررنا أخطاء الماضي، سرت علينا قوانين التاريخ بلا مُحاباة.
7- فهم مسؤولية الاستخلاف في الأرض: فذكر الهلاك ليس من أجل الموعظة المحضة، ولكن لإبراز جدية الأمانة المُلقاة على عاتق المؤمنين، فبهلاك الظالمين ونجاة المؤمنين، تقع مسؤولية الاستخلاف في الأرض على الأمة الجديدة، وهذا الاستخلاف يتطلب أولاً الوعي بالإرث التاريخي المحمول على عاتقها لئلا تكرر أخطاء الأسلاف، وثانياً: قيام الحجة على تلك الأمة المُستخلفة بعدم جواز العذر بالجهل.
التاريخ كدافع للنهضة ومسؤولية الاستخلاف
من هنا، فالتاريخ كعلم يحوز مكانة محورية لافتة للنظر والتأمل في المنهجية القرآنية، لا من حيث تفضيل الماضي على الحاضر وتقديس ميراث السابقين، وإنما كدافع نحو اليقين الإيماني بوجود إله عادل وقادر يُسير الكون، ومُحرك نحو اقتحام ميادين النجاح بالعمل الصادق والأخذ بأسباب النهضة وتلافي أسباب الهلاك التي هي قوانين ثابتة منذ خلق الله الأرض ومن عليها، فإذا ما ابتغينا المضي قدماً فلا سبيل إلى ذلك إلا بمراجعة سابقة لعثرات التاريخ والإيمان صادق بالقوانين الإلهية الراسخة.
