كيف تحوّلت الصدقات إلى «قذائف رحمة» لفكّ الحصار عن غزة؟

أميرة زكي

في نكبة تعطلت فيها المشاعر العالمية، وتم إغلاق الأبواب والمنافذ في وجه المستغيثين، وفي ظل حصار خانق أحكم فيه الاحتلال قبضته على قطاع غزة، متجرئًا بفجور على طرد منظمات الإغاثة الدولية واللاجئين وعلى رأسها وكالات الأمم المتحدة كـ«الأونروا»، برز دور التكافل بالمال كوجه للجهاد في سبيل الله.

لم يكن الأمر مجرد صدقة تُدفع سدًا لحاجة عابرة، بل تحوّل إلى جبهة مقاومة صامتة، تُدار بعيدًا عن الكاميرات، أطلقتها الجمعيات الأهلية وفاعلو الخير،

هذا الجهاد ليس إنفاقًا تقليديًا، بل هو ركن ركين من أركان النصرة،

برز الدور الفاعل للجمعيات الأهلية والخيرية في مناطق واسعة من العالم لدعم غزة عبر تحويل الأموال ودعم إقامة «التكيات» أو مطابخ الخير وتقديم الملابس والاحتياجات الأساسية عن طريق التحويلات المالية الإلكترونية السريعة أثبتت أنّ الإيمان يجد طريقه رغم كل القيود.

إنّ المال، الذي قد يكون في أيدي البعض مجرد زينة للحياة الدنيا، يتحوّل في هذا السياق إلى قذائف رحمة، وجسر إغاثة، وشريان حياة يضخّ الدفء والطعام والدواء إلى أجساد أنهكها الألم وأرواح أتعبها الانتظار، فكل درهم يُرسَل، وكل دينار يُبذَل سهم يُصوَّب نحو فكّ الحصار، ومنديل يمسح دمعة يتيم، ولقمة تسدّ جوع مكلوم.

الإغاثة عبر المحافظ الإلكترونية

تروي «ن. م»، وهي معلمة قرآن مصرية، كيف تحوّل تعليمها للقرآن إلى منصة جهادية إغاثية، تقول: لديَّ طالبات جميلات يحفظن القرآن في غزة، وحينما بدأت حرب التجويع، بدأت أجمع الصدقات والتبرعات وأرسلها لهن عبر المحافظ الإلكترونية ليتم صرفها من غزة لشراء بعض احتياجاتهن، كنا نعلم أن هذا أضعف الإيمان، لكننا كنا نحتسبه جهاداً بالمال، بعد أن تم تقييدنا وإحباط عزيمتنا لنصرة إخوتنا في الدين والدم.

تضيف لـ«المجتمع»: إن عمليات التصوير وتوثيق وصول التبرعات كان جزءًا أصيلاً لزرع الثقة بين المتبرعين في الخارج والمستحقين في الداخل.

نموذج التكافل العابر للحدود

تحكي «ع. م» من تركيا عن نجاحها في تجاوز الطرق التقليدية التي سرعان ما أُغلقت: نجحنا في التواصل مع منظمة بلا حدود التي كانت تتولى عمل «التكيّات» وتوزيع الطعام والملابس في شمال القطاع، وهو أشد المناطق تضرراً.

وقالت: قمنا بجمع تحويلات مالية من عدة بلاد وتحويلها ليتم صرفها لأهلنا في شمال وجنوب القطاع، وشراء بعض المستلزمات من ملابس والأغذية والمعلبات، حتى إننا جمعنا مبالغ مالية تم توزيعها كعيدية للأطفال فجر عيد الفطر الماضي.

وتابعت أن هذا الجهاد الإلكتروني لا يخلو من عوائق مؤلمة؛ فكان أشد المواقف علينا صعوبة قطع الإنترنت عن غزة، فتتوقف كل عمليات التحويل ونظل ننتظر بحسرة وألم حتى يتم تشغيله، لحظتها نشعر بالعجز أمام التجويع الممنهج.

الطريقة الأكثر فاعلية

في ظل الحصار الممنهج على قطاع غزة الذي اشتدت قسوته في آخر سنتين، أثبتت التحويلات الإلكترونية المباشرة أنها الوسيلة الأكثر فاعلية، متجاوزة البيروقراطية وتعقيدات المعابر.

تقول «ك. ش»، وهي من المتطوعات لجمع تبرعات لغزة: إنها حاولت في بداية الحرب إيصال المساعدات بالطرق التقليدية عبر وسطاء يعبرون من معبر رفح، لكن هذه الطرق سرعان ما تم إغلاقها أمامهم.

واليوم، أصبحت سرعة التحويل المالي، التي تُنجز في دقائق، الطريقة الأسرع لإنقاذ حياة، خاصة عند التعاقد مع كيانات موثوقة تستطيع الصرف داخل القطاع.

مواجهة التجميد البنكي

يؤكد «ر. س»، أحد العاملين في إرسال التحويلات لغزة، الأهمية الحيوية للتحويلات الرقمية، قائلاً: لقد اضطررنا لابتكار طرق جديدة لمواجهة حرب التجميد البنكي التي تستهدف قنوات الدعم، ويضيف أن التحويلات الإلكترونية السريعة عبر تطبيقات الهاتف أو المنصات الموثوقة لم تعد رفاهية، بل هي أداة حرب إنسانية ضد الحصار الممنهج؛ إنها تضمن سرعة وصول السيولة النقدية إلى أيدي شركائنا على الأرض داخل القطاع، لتمكينهم من شراء المواد الضرورية من السوق المحلية -ولو بارتفاع الأسعار- قبل أن تنفد تماماً.

هذا الإجراء يحمي أموال المتبرعين من التعقيدات اللوجستية ويضمن وصولها في وقت قياسي، لتتحول الأموال إلى طعام ودواء في اللحظة التي يشتد فيها الخناق.

فريضة لها أجران

وقد أكد الأزهر الشريف في فتواه على مركز الأزهر العالمي أن التبرع لصالح أهل غزة لإيصال المواد الغذائية والمستلزمات الطبية، وكذلك المساهمة في إعادة إعمار المناطق المتضررة، هو من أعظم القربات إلى الله، مشيرًا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمنُ أخُو المؤمنِ يكُفُّ عليه ضيْعتَه، ويَحوطُه من ورائِه».

وأضاف أن المسلم الذي يخرج ماله لدعم المتضررين في فلسطين فقد جاهد بماله، وهو من أعظم أنواع الصدقة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحبُّ النَّاسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاس».

وعن إخراج الزكاة لإعمار غزة، قالت الفتوى: إنه جائز ويُثاب عليه المسلم بأجرين؛ حيث يعد من صور الجهاد بالمال وأعظم الصدقات.

لقد غدت هذه التبرعات، التي تُرسل عبر الأسلاك والأثير، شاهدًا على هزيمة منطق الجغرافيا والسياسة أمام قوة الإيمان والتكافل.

فبينما فشلت القرارات الدولية وتخاذلت المواقف الرسمية في وقف العدوان أو إدخال الإغاثة الكافية، تحوّل كل متبرع إلى جندي في معركة البقاء، وكل تحويل مالي إلى طلقة رحمة تخترق جدار التجويع، إنها ليست مجرد أموال تُرسل، بل هي رسائل مفعمة بالكرامة والعزة، تؤكد لأهل غزة أنهم ليسوا وحدهم في هذه المحنة.

هذا الجهاد المالي يزرع الأمل في قلوب الأطفال والنساء، ويمدّ جسور الصمود التي لا يمكن للحصار أن يقطعها.

إنه دليل عملي على أن الأمة، وإن قُيّدت حركتها، فإنها لا تُقيّد عطاءها؛ فالعطاء هو إحدى أعمق صور المقاومة التي يمتلكها المسلمون لمواجهة أعتى أشكال العدوان.

كيف تحوّلت الصدقات إلى «قذائف رحمة» لفكّ الحصار عن غزة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *